رجال حكماء

من "جتام"

   في ذات يوم بلغ أهالي "جتام" أنّ ملك تلك البلاد سوف يقوم برحلة يعرّج فيها على مدينتهم، فساءهم ذلك البلاغ واضطربوا عند سماعه لأنّهم كانوا يبغضون مليكهم لقساوته وقبحه ورداءته، وأنّه إذا حلّ ضيفًا على مدينتهم سوف تكلّفهم ضيافته مبالغ باهظة ليطعموه ولينيّموه؛ وفي الوقت نفسه إذا رأى أي شيء يعجبه لا يتوانى عن الاستيلاء عليه، بدون إذن أحد وبدون مبالاة بصاحبه.

   فالتأموا في مكان معيّن وأخذوا يتذاكرون ويتبادلون الرأي فيما يمكن أن يصنعوه لتفويت الفرصة عليه. فقال أحدهم وهو من رجالهم الحكماء:

- سوف نذهب إلى الغابة المجاورة التي سوف يجتازها الملك في مسيره ونقطع الأشجار الضخمة الباسقة فنرميها على الطريق، فيتعذّر على الملك وحاشيته حينئذ المرور، وهكذا ننجو من استضافة الملك الثقيل.

   فاستحسن الجميع هذا الرأي الحكيم وهرعوا جميعًا إلى بيوتهم، فحمل كُلٌ فأسه وأسرعوا إلى الغابة منتشرين في طرقها ومساربها الضيّقة التي سدّوها بالأشجار المقطوعة والأشواك، حتّى إذا ما جاء رجال الملك ليمرّوا اضطرّوا إلى أن يشتغلوا وقتًا طويلًا لإزالتها وجعلها صالحة للمرور، أو أن يغيّروا خطّتهم ويعدلوا عن زيارة المدينة مستعينين بطريق أخرى.

   ولمّا وصل الملك إلى ذلك المكان ورأى الممرّات والطرق مسدودة استشاط غيظًا وسأل عمّن قام بذلك العمل، فأجاب بعض الغلمان الذين اتّفق أن كانوا مارّين من هناك، أنّ ذلك الصنع نُفّذ بأيدي أهالي "جتام". فقال لهم:

- اذهبوا إلى "جتام" وبلّغوا ساكنيها بأنّي مرسل إليهم الشريف ليجدع أنوفهم كافّة.  

 فأسرع الغلمان إلى المدينة وبلّغوا ما فاه به الملك، فدبّ الهلع في قلوب قاطنيها وأخذوا يتراكضون من مكان إلى مكان حاملين الخبر المروّع ويتساءلون عمّا عساهم أن يعملوا.

فقال أحدهم:

- إنّ حكماءنا الذين منعوا الملك من دخول مدينتنا لكفيلون بإيجاد حيلة لإنقاذ أنوفنا من الجدع.

فأجابه الآخرون:

- نعم، نعم، نحن موافقون، ولكن نريد أن نعلم ما هي تلك الحيلة؟

   حينئذ اجتمع السكّان ونهض من بينهم شخصٌ اسمه "دوبين" معروف برجاحة عقله وحكمته وخبرته وخاطبهم قائلًا:

- أيّها الناس لقد طرق مسامعكم وبلا ريب، أنّ كثيرين من بني البشر قد نالهم عقاب شديد بسبب حكمتهم، أمّا أنا فلم يطرق مسمعي أنّ قانونًا من القوانين قد طال أحدًا من المجانين بسوء، لذا أنا أقترح عليكم عندما يأتي مندوب الملك لينفّذ أمره بجدع أنوفنا  بأن نسلك سلوك المجانين فننجو!

   فصرخ الآخرون صراخ الاستحسان والقبول قائلين:

- نعم سنصنع كلّنا ما يصنعه المعتوهون!

   لم يكن من السهولة نزع الأشجار وإزالة الأشواك عن الطريق حتّى تصير في وقت وجيز سهلة المسلك أمام الملك، لذلك لم يستطع الانتظار، فعاد أدراجه إلى لندن وقلبه يتقطّر حنقًا من وقاحة أهالي "جتام".

   وبعد بضعة أيّام بعث الملك بعامله إلى المدينة المغضوب عليها، ترافقه فرقة من الجنود القساة القلوب المتوحّشين، فاخترقوا الغابات والحقول ممتطين جياد الخيل؛ وقبيل بلوغهم المكان المقصود شاهدوا منظرًا غريبًا! إذ رأوا الرجال الطاعنين في السن يدحرجون الصخور الكبيرة من أعالي إحدى التلال، والشبّان يتفرّجون عليهم ويهمهمون همهمة عالية ويلهثون؛ فأوقف عامل الملك خيله وسألهم عمّا يفعلون.

فأجابه أحد الشيوخ قائلًا:

- ندحرج الحجارة الكبيرة من على هذه التلّة لكي نجعل الشمس تستعجل في الشروق.

فأجابه رئيس الشرطة:

- أيّها الغبيّ ألا تدري أنّ الشمس تستطيع الشروق بدون حيلتكم الحمقاء هذه؟!

فقال الشيخ العجوز:

- أحقًا تستطيع الشمس ذلك؟ والله، ما أحكمك أيّها الرجل! لم يرد في خلدي قطّ ذلك.  

ثمّ توجّه العامل إلى الشبّان وخاطبهم بمثل ما خاطب به المسنّين الكبار، فأجابوه:

- علينا باللهيث والهمهمة وعلى آبائنا العمل.

فقال حينئذ:

- فهمت الآن! هذه هي الطريقة التي يتّبعها الناس في كلّ مكان!

   ثمّ امتطى جواده وأكمل مسيره متّجهًا نحو المدينة! فوصل إلى حقل رأى فيه أناسًا يبنون سورًا عاليًا من الحجارة، فسألهم عن عملهم فقالوا له:

- أيّها السيّد الكريم في هذا الحقل طائر من طيور الكوكو، وهذا السور العالي الذي نشيّده هو السبيل إلى منع العصفور من الإفلات!

فخاطبهم قائلًا:

- أيّها الأغبياء البلهاء ألا تدركون أنّ هذا الطائر يستطيع التحليق فوق سوركم مهما علا وشمخ، وينجو من شرككم هذا الدالّ على جنونكم!

فأجابوه: - إنّ هذا لم يخطر ببالنا قطّ، آه ما أسمى حكمتك أيّها الرجل!

وواصل العامل الشريف المسير إلى أن التقى رجلًا حاملًا بابًا على ظهره، فسأله عن حاله فجاوبه بهذا الكلام:

- إنّي أقوم برحلة طويلة أغيب فيها عن بيتي.

- لماذا تحمل هذا الباب على ظهرك؟

- إنّي تركت دراهمي في البيت.

- لماذا لم تترك الباب أيضًا؟

- إنّي أخاف من اللّصوص أن يسطوا عليه ويستولوا على المال، وأنت ترى أنّي إذا أخذت الباب معي فلن يتمكّن السارقون من كسره، ومن ثمّ ولوج البيت!

- ما أغباك وما أخفّ عقلك يا رجل! ألم يكن من الأفضل والأسلم لدراهمك أن تحملها وتخلّي الباب في مكانه؟!

- أصحيح ما تقول؟ إنّي لم أفطن إلى ذلك، والله إنّي لم أر في حياتي قطّ رجلًا أحكم وأفطن منك!

   وبعد هذا الذي حصل وسُمع، سار الشريف ورجاله مواصلين طريقهم، وكان كلّ من صادفوه من الناس على شاكلة الناس الآنف ذكرهم.

وفي أثناء السير قال أحد الفرسان:

- أنا أعتقد أنّ سكان "جتام" أجمعين مجانين!

وقال آخر:

- إنّ ما تقوله لحقٌّ، ومن المخجل والعار أن نوقع أذى بأناس سذّج كهؤلاء.

ووصل الدور في التعليق إلى العامل الشريف فقال:

- لنعد إذًا إلى لندن ونبلّغ الملك ما شاهدناه وسمعناه!

فقال الفرسان:

- نعم لنعد.

 وقفلوا عائدين وأوقفوا الملك على ما رأوا وأنّ "جتام" مدينة أهلوها بلهاء مجانين.

 فضحك الملك وقال:

- إذا كانت تلك حال "جتام" فلن أمسّهم بأذى أو بسوء وسوف أترك لهم أنوفهم سالمة.

                                              ترجمة يوسف س. نويهض